تفسير الخطيب الشربيني - ج ٤

محمّد بن أحمد الخطيب الشربيني المصري

تفسير الخطيب الشربيني - ج ٤

المؤلف:

محمّد بن أحمد الخطيب الشربيني المصري


المحقق: إبراهيم شمس الدين
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
978-2-7451-4207-0

الصفحات: ٧٢٨

وَما تَأَخَّرَ) [الفتح : ٢] وقال الحسين بن الفضل : يعني الخطأ والسهو. وقيل : ذنوب أمتك ، وأضافها إليه لاشتغال قلبه بها.

(الَّذِي أَنْقَضَ ،) أي : أثقل (ظَهْرَكَ) قال أبو عبيدة : خففنا عنك أعباء النبوّة والقيام بها حتى لا تثقل عليك وقيل : كان في الابتداء يثقل عليه الوحي حتى يكاد يرمي نفسه من شاهق إلى أن جاءه جبريل عليه‌السلام ، وأزال عنه ما كان يخاف من تغير العقل وقيل : عصمناك من احتمال الوزر ، وحفظناك قبل النبوّة في الأربعين من الأدناس ، حتى نزل عليك الوحي وأنت مطهر.

(وَرَفَعْنا ،) أي : بما لنا من القدرة التامّة (لَكَ ذِكْرَكَ) روى الضحاك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال : يقول الله عزوجل : لا ذكرت إلا ذكرت معي في الأذان والإقامة والتشهد ، ويوم الجمعة على المنابر ، ويوم الفطر ، ويوم الأضحى ، ويوم عرفة ، وأيام التشريق ، وعند الجمار ، وعلى الصفا والمروة ، وفي خطبة النكاح ، ومشارق الأرض ومغاربها.

ولو أنّ رجلا عبد الله تعالى ، وصدّق بالجنة والنار ، وكل شيء ولم يشهد أنّ محمدا رسول الله لم ينتفع بشيء ، وكان كافرا وقيل : أعلينا ذكرك فذكرناك في الكتب المنزلة على الأنبياء قبلك ، وأمرناهم بالبشارة بك ولا دين إلا ودينك يظهر عليه.

وقيل : رفعنا ذكرك عند الملائكة في السماء وفي الأرض عند المؤمنين ، ونرفع في الآخرة ذكرك بما نعطيك من المقام المحمود وكرائم الدرجات. وقال الضحاك : لا تقبل صلاة إلا به ، ولا تجوز خطبة إلا به. وقال مجاهد : يعني التأذين. وفيه يقول حسان بن ثابت (١) :

أغرّ عليه للنبوّة خاتم

من الله مشهور يلوح ويشهد

وضم الإله اسم النبيّ إلى اسمه

إذا قال في الخمس المؤذن أشهد

وشق له من اسمه ليجله

فذو العرش محمود وهذا محمد

وقيل : رفع ذكره بأخذ ميثاقه على النبيين وإلزامهم الإيمان به والإقرار بفضله. وقيل : عام في كل ما ذكر ، وهذا أولى وكم من موضع في القرآن يذكر فيه النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم من ذلك قوله تعالى : (وَاللهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ) [التوبة : ٦٢]. وقوله تعالى : (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فازَ) [الأحزاب : ٧١]. وقوله تعالى : (وَأَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) [المائدة : ٩٢].

ولما كان المشركون يعيرونه صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين بالفقر والضيقة حتى سبق إلى وهمه أنهم رغبوا عن الإسلام لافتقار أهله واحتقارهم ، ذكره ما أنعم الله به عليه من جلائل النعم ، ثم وعده اليسر والرخاء بعد الشدّة فقال تعالى : (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ ،) أي : ضيق الصدر والوزر المنقض للظهر وضلال القوم وإيذائهم (يُسْراً ،) أي : كالشرح والوضع والتوفيق للاهتداء والطاعة فلا تيأس من روح الله إذا عراك ما يهمك ، فإن مع العسر الذي أنتم فيه يسرا. فإن قيل : إنّ مع للصحبة فما معنى اصطحاب العسر واليسر؟ أجيب : بأن الله تعالى أراد أن يصيبهم بيسر بعد العسر الذي كانوا فيه بزمان قريب ، فقرب اليسر المترقب حتى جعله كالمقارن للعسر زيادة في التسلية وتقوية القلوب.

وقوله تعالى : (إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً) استئناف وعد الله تعالى بأن العسر متبوع بيسر آخر

__________________

(١) الأبيات من الطويل ، وهي في ديوان حسان بن ثابت ص ٣٣٨.

٦٤١

كثواب الآخرة ، كقولك : للصائم فرحة ، ثم فرحة ، أي : فرحة عند الإفطار وفرحة عند لقاء الرب ، ويجوز أن يراد باليسرين ما تيسر من الفتوح في أيام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وما تيسر لهم أيام الخلفاء وقيل : تكرير.

فإن قيل : ما معنى قول ابن عباس رضي الله عنه وابن مسعود رضي الله عنهما : لن يغلب عسر يسرين ، وقد روي مرفوعا أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم «خرج ذات يوم وهو يضحك ويقول : لن يغلب عسر يسرين» (١) أجيب : بأن هذا حمل على الظاهر وبناء على قوّة الرجاء ، وأنّ موعد الله لا يحمل إلا على أوفى ما يحتمله اللفظ وأبلغه ، والقول عنه أنه يحتمل أن تكون الجملة الثانية تكريرا للأولى كما كرر في قوله تعالى : (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) [المرسلات : ١٥] لتقرير معناها في النفوس ، وتمكينها في القلوب ، وكما تكرر المفرد في قولك : زيد زيد. وأن تكون الأولى عدة بأن العسر مردف بيسر لا محالة ، والثانية عدة مستأنفة بأن العسر متبوع بيسر فهما يسران على تقدير الاستئناف.

وإنما كان العسر واحدا لأنه لا يخلو إما أن يكون تعريفه للعهد ، وهو العسر الذي كانوا فيه فهو هو ، لأنّ حكمه حكم زيد في قولك : إنّ مع زيد مالا إنّ مع زيد مالا ، وإما أن يكون للجنس الذي يعلمه كل أحد فهو هو أيضا.

وأما اليسر فمنكر متناول لبعض الجنس ، فإذا كان الكلام الثاني مستأنفا غير مكرر فقد تناول بعضا غير البعض الأوّل بغير إشكال ، أو بأن لن يغلب عسر الدنيا اليسر الذي وعد الله المؤمنين فيها واليسر الذي وعدهم في الآخرة إنما يغلب أحدهما وهو يسر الدنيا فأما يسر الآخرة فدائم غير زائل ، أي : لا يجتمعان في الغلبة كقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «شهرا عيد لا ينقصان» (٢) ، أي : لا يجتمعان في النقصان. فإن قيل : فما معنى التنكير؟ أجيب : بأنه للتفخيم ، كأنه قيل : إنّ مع العسر يسرا عظيما وأي يسر.

روى عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لو كان العسر في جحر ضب لتبعه اليسر حتى يخرجه» (٣). وللطبراني عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لو كان العسر في جحر لدخل اليسر حتى يخرجه». ثم قرأ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الآية (٤).

ولما عدد تعالى على نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم نعمه السابقة ووعده الآنفة حثه على الشكر والاجتهاد في العبادة بقوله تعالى : (فَإِذا فَرَغْتَ) قال ابن عباس رضي الله عنهما : فرغت من صلاتك المكتوبة (فَانْصَبْ ،) أي : انصب في الدعاء. وقال ابن مسعود رضي الله عنه : فإذا فرغت من الفرائض فانصب في قيام الليل. وقال الشعبيّ : إذا فرغت من التشهد فادع لدنياك وآخرتك. وقال الحسن

__________________

(١) أخرجه مالك في الجهاد حديث ٦.

(٢) أخرجه مسلم في الصيام حديث ١٠٨٩ ، وأبو داود في الصوم حديث ٢٣٢٣ والترمذي في الصوم حديث ٦٩٢ ، وابن ماجه في الصيام حديث ١٦٥٩.

(٣) انظر الحاشية التالية.

(٤) أخرجه الطبراني في المعجم الكبير ١٠ / ٨٥ ، والهيثمي في مجمع الزوائد ٧ / ١٣٩ ، والمتقي الهندي في كنز العمال ٢٩٤٨ ، ٣٠٦٣ ، والسيوطي في الدر المنثور ٦ / ٣٦٤ ، وابن حجر في فتح الباري ٨ / ٧١٢ ، والقرطبي في تفسيره ٢٠ / ١٠٧ ، والعجلوني في كشف الخفاء ٢ / ٢١٣.

٦٤٢

وزيد بن أسلم : إذا فرغت من جهاد عدوّك فانصب في عبادة ربك وصل. وقال ابن حيان عن الكلبيّ : إذا فرغت من تبليغ الرسالة فانصب (وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ) [محمد : ١٩]. قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : إني أكره أن أرى أحدكم فارغا لا في عمل الدنيا ولا في عمل الآخرة.

(وَإِلى رَبِّكَ ،) أي : المحسن إليك بفضائل النعم خصوصا بما ذكر في هاتين السورتين (فَارْغَبْ ،) أي : اجعل رغبتك إليه خصوصا ، ولا تسأل إلا فضله متوكلا عليه.

وقيل : تضرع إليه راغبا في الجنة راهبا من النار عصمنا الله تعالى وأحبابنا منها بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وآله.

وقول البيضاوي تبعا للزمخشريّ إنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من قرأ ألم نشرح فكأنما جاءني وأنا مغتمّ ففرج عني» (١) حديث موضوع.

__________________

(١) ذكره الزمخشري في الكشاف ٤ / ٧٧٧.

٦٤٣

سورة التين والزيتون

مكية ، وقال ابن عباس رضي الله عنهما وقتادة مدنية وهي ثمان آيات وأربع وثلاثون كلمة ومائة وخمسون حرفا.

بسم الله الرّحمن الرّحيم

(بِسْمِ اللهِ) الذي له الملك كله (الرَّحْمنِ) الذي وسع الخلائق عدله (الرَّحِيمِ) الذي خص أولياءه بتوفيقه فظهر عليهم جوده وفضله.

(وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (١) وَطُورِ سِينِينَ (٢) وَهذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ (٣) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (٤) ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ (٥) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (٦) فَما يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ (٧) أَلَيْسَ اللهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ (٨))

وقوله تعالى : (وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ) قسم وتقدّم نظائر ذلك أقسم بهما لأنهما عجيبتان من بين أصناف الأشجار المثمرة ، روي أنه «أهدي للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم طبق من تين فأكل منه ، وقال لأصحابه : كلوا فلو قلت : إنّ فاكهة نزلت من الجنة لقلت هذه» (١) لأن فاكهة الجنة بلا عجم فكلوها فإنها تقطع البواسير ، وتنفع من النقرس ومرّ معاذ بن جبل بشجرة الزيتون فأخذ منها قضيبا واستاك به وقال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «نعم السواك الزيتون من الشجرة المباركة يطيب الفم ويذهب بالحفرة» (٢). وسمعته يقول : «هي سواكي وسواك الأنبياء من قبلي» (٣). وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : هو تينكم هذا الذي تأكلون وزيتونكم هذا الذي تعصرون منه الزيت. وقال عكرمة : هما جبلان من الأرض المقدّسة يقال لهما بالسريانية طور تينا وطور زيتا ؛ لأنهما منبتا التين والزيتون.

وقيل : التين جبال ما بين حلوان وهمدان ، والزيتون جبال الشام لأنها منابتهما ، كأنه قيل : ومنابت التين والزيتون. وقال محمد بن كعب : التين مسجد أصحاب الكهف والزيتون مسجد إيليا. وقال الضحاك : مسجدان بالشام. وقال ابن زيد : التين مسجد دمشق ، والزيتون مسجد بيت المقدس ، وحسن القسم بهما لأنهما موضع الطاعة. وقيل : التين مسجد نوح عليه‌السلام الذي بناه على الجودي ، والزيتون مسجد بيت المقدس.

__________________

(١) الحديث لم أجده بهذا اللفظ في كتب الحديث التي بين يدي.

(٢) أخرجه الهيثمي في مجمع الزوائد ٢ / ١٠٠ ، والعجلوني في كشف الخفاء ١ / ٤٤١ ، ٥٣٥.

(٣) الحديث لم أجده بهذا اللفظ في كتب الحديث التي بين يدي.

٦٤٤

(وَطُورِ سِينِينَ ،) أي : الجبل الذي ناجى عليه موسى عليه‌السلام ربه عزوجل ، وسينين وسيناء اسمان للموضع الذي هو فيه فأضيف الجبل إلى المكان الذي هو فيه. وقال مقاتل والكلبيّ : سينين كل جبل فيه شجر مثمر فهو سينين وسيناء بلغة النبط ولم ينصرف سينين كما لا ينصرف سيناء لأنه جعل اسما للبقعة أو الأرض ، ولو جعل اسما للمكان أو للمنزل أو اسم مذكر لانصرف لأنك سميت مذكرا بمذكر وإنما أقسم بهذا الجبل لأنه بالشام وهي الأرض المقدّسة ، وقد بارك فيها قال الله تعالى : (إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ) [الإسراء : ١] ولا يجوز أن يكون سينين نعتا للطور لإضافته إليه.

(وَهذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ ،) أي : الآمن ، من أمن الرجل أمانة فهو أمين ، وهي مكة حرسها الله تعالى ؛ لأنها الحرم الذي يأمن الناس فيه في الجاهلية والإسلام ، لا ينفر صيده ولا يعضد ورقه ، أي : شجره ، ولا تلتقط لقطته إلا لمنشد أو المأمون فيه يأمن فيه من دخله.

قال الزمخشريّ : ومعنى القسم بهذه الأشياء الإبانة عن شرف البقاع المباركة وما ظهر منها من الخير والبركة بسكنى الأنبياء والصالحين فمنبت التين والزيتون مهاجر إبراهيم عليه‌السلام ، ومولد عيسى عليه‌السلام ومنشؤه والطور المكان الذي نودي منه موسى عليه‌السلام ، ومكة البيت الذي هو هدى للعالمين ومولد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومبعثه ا ه.

وقوله تعالى : (لَقَدْ خَلَقْنَا ،) أي : قدّرنا وأوجدنا بما لنا من العظمة والقدرة التامّة (الْإِنْسانَ) جواب القسم والمراد بالإنسان : الجنس الذي جمع فيه الشهوة والعقل ، وفيه من الإنس بنفسه ما ينسيه أكثر مهمه الشامل لآدم عليه‌السلام وذريته. وقيل : نزلت في منكري البعث. وقيل : في الوليد بن المغيرة وقيل : كلدة بن أسيد. وقوله تعالى : (فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) صفة لمحذوف ، أي : في تقويم أحسن تقويم. وقال أبو البقاء : في أحسن تقويم في موضع الحال من الإنسان ، وأراد بالتقويم القوام لأن التقويم فعل وذاك وصف للخالق لا للمخلوق ، ويجوز أن يكون التقدير في أحسن قوام التقويم فحذف المضاف ، ويجوز أن تكون في زائدة ، أي : قومناه أحسن تقويم ا ه.

وأحسن تقويم أعدله لأنه تعالى خلق كل شيء منكبا على وجهه وخلق الإنسان مستويا ، وله لسان ذلق ويد وأصابع يقبض بها. قال ابن العربي : ليس لله تعالى خلق أحسن من الإنسان ، فإنّ الله تعالى خلقه حيا عالما قادرا مريدا متكلما سميعا بصيرا مدبرا حكيما وهذه صفات الله تعالى وعبر عنها بعض العلماء ، ووقع البيان بقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الله تعالى خلق آدم على صورته» (١) يعني : على صفاته المتقدّم ذكرها.

وفي رواية «على صورة الرحمن» ومن أين يكون للرحمن صورة شخصية فلم تكن إلا معاني. وروي أنّ عيسى بن يوسف الهاشميّ كان يحب زوجته حبا شديدا ، فقال لها يوما : أنت طالق ثلاثا إن لم تكوني أحسن من القمر فنهضت واحتجبت عنه ، وقالت : طلقتني فبات بليلة عظيمة فلما أصبح غدا إلى دار المنصور فأخبره الخبر ، فاستحضر الفقهاء واستشارهم ، فقال جميع من حضر قد

__________________

(١) أخرجه مسلم في البر حديث ٢٦١٢ (١١٥) ، وأحمد في المسند ٢ / ٢٤٤ ، ٢٥١ ، ٣٢٣ ، ٤٣٤ ، ٤٦٣ ، ٥١٩.

٦٤٥

طلقت إلا رجلا واحدا من أصحاب أبي حنيفة فإنه كان ساكتا ، فقال له المنصور : ما لك لا تتكلم ، فقال الرجل : بسم الله الرحمن الرحيم (وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ) إلى قوله تعالى : (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) يا أمير المؤمنين فالإنسان أحسن الأشياء ، ولا شيء أحسن منه ، فقال المنصور لعيسى : الأمر كما قال الرجل فأقبل على زوجتك ، فأرسل المنصور إليها أطيعي زوجك فما طلقك. وهذا يدل على أنّ الإنسان أحسن خلق الله تعالى ولذلك قيل : إنه العالم الأصغر إذ كل ما في المخلوقات اجتمع فيه.

(ثُمَّ رَدَدْناهُ) أي : بعض أفراداه بما لنا من القدرة الكاملة (أَسْفَلَ سافِلِينَ) أي : إلى الهرم وأرذل العمر فيضعف بدنه وينقص عقله ، والسافلون هم الضعفاء والزمنى والأطفال ، والشيخ الكبير أسفل من هؤلاء جميعا لأنه لا يستطيع حيلة ولا يهتدي سبيلا ، فقوس ظهره بعد اعتداله ، وأبيض شعره بعد اسوداده ، وكل بصره وسمعه وكانا حديدين ، وتغير كل شيء منه فمشيه دليف وصوته خفات وقوّته ضعف وشهامته خرف. وقيل : ثم رددناه إلى النار لأنها دركات بعضها أسفل من بعض.

فقوله تعالى : (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا) أي : تصديقا لدعواهم الإيمان (الصَّالِحاتِ) أي : الطاعات استثناء متصل على الثاني على أنّ المعنى : رددناه أسفل من سفل خلقا وتركيبا يعني : أقبح من قبح صورة وأشوهه خلقة ، وهم أهل النار وأسفل من سفل من أهل الدركات. فالاتصال على هذا واضح ، وعلى الأوّل منقطع ، أي : لكن الذين كانوا صالحين من الهرمى (فَلَهُمْ) أي : فتسبب عن ذلك أن كان لهم (أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ) أي : ثواب دائم غير منقطع على طاعاتهم وصبرهم على ابتلاء الله تعالى لهم بالشيخوخة والهرم وعلى مقاساة المشاق والقيام بالعبادة على تخاذل نهوضهم وفي الحديث : «إذا بلغ المؤمن من الكبر ما يعجز عن العمل كتب له ما كان يعمل» (١). وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : إلا الذين قرؤوا القرآن ، وقال : من قرأ القرآن لم يردّ إلى أرذل العمر. ثم قال تعالى إلزاما للحجة :

(فَما يُكَذِّبُكَ) أي : أيها الإنسان الكافر (بَعْدُ) أي : بعد ما ذكر من خلق الإنسان من نطفة وتقويمه بشرا سويا وتدريجه في مراتب الزيادة إلى أن يستوي ويكمل ويصير في أحسن تقويم ، ثم يردّ إلى أرذل العمر الدال على القدرة على البعث ، فيقول : إنّ الذي فعل ذلك قادر على أن يبعثني ويحاسبني فما سبب تكذيبك أيها الإنسان (بِالدِّينِ) أي : الجزاء بعد هذا الدليل القاطع. وقيل : الخطاب للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وعلى هذا يكون المعنى : فما الذي يكذبك فيما تخبر به من الجزاء أو البعث بعد هذه العبر التي يوجب النظر فيها صحة ما قلت

وقوله تعالى : (أَلَيْسَ اللهُ) أي : الملك الأعظم على ما له من صفات الكمال (بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ) أي : بأقضى القاضين. وعيد للكفار وأنه يحكم عليهم بما هم أهله. وفي الحديث : «من قرأ التين إلى آخرها فليقل : بلى وأنا على ذلك من الشاهدين» (٢). وقول البيضاوي تبعا للزمخشريّ : عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من قرأ سورة والتين أعطاه الله تعالى خصلتين العافية واليقين ما دام في دار الدنيا وإذا مات أعطاه الله من الأجر بعدد من قرأ هذه السورة» (٣) حديث موضوع.

__________________

(١) أخرجه بلفظ قريب منه البخاري في الجهاد حديث ٢٩٩٦.

(٢) أخرجه أحمد في المسند ٢ / ٢٤٩.

(٣) ذكره الزمخشري في الكشاف ٤ / ٧٨٠.

٦٤٦

سورة العلق

مكية ، وهي عشرون آية واثنتان وسبعون كلمة ومائتان وسبعون حرفا.

بسم الله الرّحمن الرّحيم

(بِسْمِ اللهِ) الذي له صفة الكمال المستحق للإلهية (الرَّحْمنِ) الذي عم جوده سائر البرية (الرَّحِيمِ) الذي خص أهل طاعته بألطافه السنية.

عن ابن عباس رضي الله عنهما ومجاهد : أنّ أوّل سورة نزلت من القرآن.

(اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (١) خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ (٢) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (٣) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (٤) عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ (٥) كَلاَّ إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى (٦) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى (٧) إِنَّ إِلى رَبِّكَ الرُّجْعى (٨) أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى (٩) عَبْداً إِذا صَلَّى (١٠) أَرَأَيْتَ إِنْ كانَ عَلَى الْهُدى (١١) أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوى (١٢) أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (١٣) أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللهَ يَرى (١٤) كَلاَّ لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ (١٥) ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ خاطِئَةٍ (١٦) فَلْيَدْعُ نادِيَهُ (١٧) سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ (١٨) كَلاَّ لا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ (١٩))

(اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ) وأوّل ما نزل خمس آيات من أولها إلى قوله تعالى : (ما لَمْ يَعْلَمْ) وعن عائشة أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها أنها قالت : «أوّل ما بدئ به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الوحي الرؤيا الصالحة» ولمسلم «الصادقة في النوم فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح ، ثم حبب إليه الخلاء ، وكان يخلو بغار حراء يتحنث فيه ، وهو التعبد الليالي ذوات العدد قبل أن ينزع إلى أهله ويتزوّد لذلك ، ثم يرجع إلى خديجة فيتزوّد لمثلها حتى جاءه الحق» (١). وفي رواية «حتى فجأه الحق وهو في غار حراء فجاءه الملك فقال له : اقرأ. قال : ما أنا بقارئ ، قال : فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني ، فقال : اقرأ ،. قلت : ما أنا بقارئ ،. قال : فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني ، فقال : اقرأ ،. قلت : ما أنا بقارئ ،. قال : فأخذني فغطني الثالثة حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني ، فقال : (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ) حتى بلغ (ما لَمْ يَعْلَمْ) فرجع بها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يرجف فؤاده فدخل على خديجة بنت خويلد فقال : زملوني زملوني فزملوه حتى ذهب عنه الروع ، فقال لخديجة : لقد خشيت على نفسي ، فقالت له خديجة : كلا أبشر فو الله لا يخزيك الله أبدا ، إنك لتصل الرحم ، وتصدق الحديث ، وتحمل الكل ، وتكسب المعدوم ، وتقري الضيف ، وتعين على نوائب الحق. فانطلقت به خديجة حتى أتت به ورقة بن نوفل ابن أسد بن عبد

__________________

(١) أخرجه البخاري في تفسير القرآن حديث ٤٩٥٤ ، ومسلم في الإيمان حديث ١٦٠.

٦٤٧

العزى ابن عم خديجة ، وكان امرأ تنصر في الجاهلية ، وكان يكتب الكتاب العبراني فيكتب من الإنجيل بالعبرانية ما شاء الله تعالى أن يكتب ، وكان شيخا كبيرا قد عمي ، فقالت له خديجة : يا ابن عمّ اسمع من ابن أخيك ، فقال له ورقة : يا ابن أخي ماذا ترى فأخبره رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خبر ما رأى ، فقال له ورقة : هذا الناموس الذي أنزل على موسى يا ليتني أكون فيها جذعا ليتني أكون حيا إذ يخرجك قومك ، فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أو مخرجيّ هم؟ فقال : نعم ، لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي ، وإن يدركني يومك أنصرك نصرا مؤزرا ، ثم لم يلبث ورقة أن توفي وفتر الوحي» (١) زاد البخاري قال : «وفتر الوحي حتى حزن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما بلغنا حزنا غدا منه مرارا حتى يتردّى من رؤوس شواهق الجبال ، فكلما أو فى بذروة جبل لكي يلقي نفسه منه تبدى له جبريل عليه‌السلام فقال له : يا محمد إنك لرسول الله حقا فيسكن لذلك جأشه ، وتقرّ نفسه فيرجع ، فإذا طالت عليه فترة الوحي غدا مثل ذلك ، فإذا وافى بذروة جبل تبدى له جبريل فقال له : مثل ذلك» (٢). ففي الحديث دليل صحيح على أن سورة اقرأ أوّل ما نزل من القرآن ، وفيه ردّ على من قال : إنّ المدثر أول ما نزل من القرآن ، وعلى من قال : إنّ الفاتحة أوّل ما نزل ثم سورة القلم. وفي هذا الحديث من مراسيل الصحابة ، ومرسل الصحابي حجة عند جميع العلماء إلا ما انفرد به الأستاذ أبو إسحاق الإسفرايني. وإنما ابتدئ صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالرؤيا لئلا يفجأه الملك فيأتيه بصريح النبوّة بغتة فلا تحملها القوى البشرية ، فبدئ بأوائل علامة النبوّة توطئة للوحي.

تنبيه : محل (بِاسْمِ رَبِّكَ) النصب على الحال ، أي : اقرأ مفتتحا باسم ربك أو مستعينا به ، قل : بسم الله ثم اقرأ. وقال أبو عبيدة : مجازه اقرأ اسم ربك ، يعني : أنّ الباء زائدة ، والمعنى : اذكر اسمه ، أمر أن يبتدئ القراءة باسم الله تعالى تأديبا. وقيل : الباء بمعنى على ، أي : اقرأ على اسم ربك كما في قوله تعالى : (وَقالَ ارْكَبُوا فِيها بِسْمِ اللهِ مَجْراها وَمُرْساها) [هود : ٤١] قاله الأخفش. فإن قيل : كيف قدم هذا الفعل على الجارّ ، وقدر مؤخرا في بسم الله الرحمن الرحيم ، أي : على سبيل الأولوية كما في (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) [الفاتحة : ٤] ولأنه تعالى مقدم ذاتا لأنه قديم واجب الوجود لذاته فيقدم ذكرا؟ أجيب : بأن هذا في ابتداء القراءة وتعليمها لما مرّ أنها أول سورة نزلت فكان الأمر بالقراءة أهم باعتبار هذا العارض ، وإن كان ذكر الله تعالى أهم في نفسه. وذكرت أجوبة غير هذا في مقدّمتي على البسملة والحمدلة

وقوله تعالى : (الَّذِي خَلَقَ) يجوز أن لا يقدّر له مفعول ، ويراد أنه الذي حصل منه الخلق واستأثر به لا خالق سواه وأن يقدّر له مفعول ويراد خلق كل شيء فيتناول كل مخلوق لأنه مطلق فليس بعض المخلوقات أولى بتقديره من بعض.

وقوله تعالى : (خَلَقَ الْإِنْسانَ) أي : هذا الجنس الذي من شأنه الأنس بنفسه ، وما رأى من أخلاقه وحسنه وما ألفه من أبناء جنسه تخصيص بالذكر من بين ما يتناوله الخلق لأنّ التنزيل إليه وهو أشرف ما على الأرض ويجوز أن يراد الذي خلق الإنسان كما قال الله تعالى : (الرَّحْمنُ (١) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (٢) خَلَقَ الْإِنْسانَ) [الرحمن : ١ ـ ٣] فقيل : الذي خلق مبهما ، ثم فسره بقوله : (خَلَقَ

__________________

(١) انظر الحاشية السابقة.

(٢) أخرجه البخاري في التعبير حديث ٦٩٨٢.

٦٤٨

الْإِنْسانَ) تفخيما لخلق الإنسان ودلالة على عجيب فطرته وقوله تعالى : (مِنْ عَلَقٍ) جمع علقة وهي الدم الجامد ، فإذا جرى فهو المسفوح ولما كان الإنسان اسم جنس في معنى الجمع جمع العلق ، ولمشاكلة رؤوس الآي أيضا.

وقوله تعالى : (اقْرَأْ) تكرير للمبالغة ، أو الأول مطلق والثاني للتبليغ ، أو في الصلاة قال البيضاوي : ولعله لما قيل له : (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ) قال ما أنا بقارئ فقيل له اقرأ : (وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ) أي : الزائد في الكرم على كل كريم ، فإنه ينعم على عباده النعم التي لا تحصى ، ويحلم عنهم ولا يعاجلهم بالعقوبة مع كفرهم وجحودهم لنعمه ، وركوبهم المناهي في اطراحهم الأوامر ، ويقبل توبتهم ويتجاوز عنهم بعد اقتراف العظائم ، فما لكرمه غاية ولا أمد ، وكأنه ليس وراء التكرّم بإفادة الفوائد العلمية تكرّم حيث قال الأكرم : (الَّذِي عَلَّمَ) أي : بعد الحلم عن معاجلتهم بالعقاب جودا منه تعالى من غير مانع من خوف عاقبة ، ولا رجاء منفعة (بِالْقَلَمِ) أي : الخط بالقلم.

(عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ) فدل على كمال كرمه بأنه علّم عباده ما لم يعلموه ، ونقلهم من ظلمة الجهل إلى نور العلم ونبه على فضل علم الكتابة لما فيه من المنافع العظيمة التي لا يحيط بها إلا هو ، وما دونت العلوم ولا قيدت الحكم ، ولا ضبطت أخبار الأوّلين ومقالاتهم ، ولا كتب الله المنزلة إلا بالكتابة ، ولو لا هي لما استقامت أمور الدين والدنيا ، ولو لم يكن على دقيق حكمة الله تعالى ولطيف تدبيره دليل إلا أمر القلم والخط لكفى به. ولبعضهم في صفة القلم (١) :

ورواقم رقش كمثل أراقم

قطف الخطا نيالة أقصى المدى

سود القوائم ما يجدّ مسيرها

إلا إذا لعبت بها بيض المدى

وقال قتادة : القلم نعمة من الله تعالى ، ولو لا ذلك لم يقم دين ولم يصلح عيش فدل على كمال كرمه تعالى. وروى عبد الله بن عمر قال : «قلت : يا رسول الله أكتب ما أسمع منك من الحديث قال : نعم فاكتب فإنّ الله تعالى علم بالقلم» (٢). ويروى أنّ سليمان عليه‌السلام سأل عفريتا عن الكلام فقال : ريح لا يبقى ،. فقال : فما قيده؟ قال : الكتابة. وعن عمر قال : خلق الله تعالى أربعة أشياء بيده ثم قال تعالى لسائر الحيوان : كن فكان ، وهي القلم والعرش وجنة عدن وآدم عليه‌السلام.

وفيمن علم بالقلم ثلاثة أقوال : أحدها : قال كعب : أوّل من كتب بالقلم آدم عليه الصلاة والسلام. ثانيها : قال الضحاك : إدريس عليه‌السلام. ثالثها : أنه جميع من كتب بالقلم لأنه ما علم إلا بتعليم الله تعالى.

وقال القرطبي : الأقلام ثلاثة في الأصل : القلم الأوّل : الذي خلقه الله تعالى بيده وأمره أن يكتب في اللوح المحفوظ ، والثاني : قلم الملائكة الذي يكتبون به المقادير والكوائن ، والثالث : أقلام الناس يكتبون بها كلامهم ويصلون بها إلى مآربهم. وعن ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا تسكنوا نساءكم الغرف ولا تعلموهنّ الكتابة» (٣). قال بعض العلماء : وإنما حذرهم صلى‌الله‌عليه‌وسلم

__________________

(١) البيتان لم أجدهما في المصادر والمراجع التي بين يدي.

(٢) أخرجه القرطبي في تفسيره ٢٠ / ١٢٠.

(٣) أخرجه الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد ١٤ / ٢٢٢ ، وابن الجوزي في الموضوعات ٢ / ٢٩٦ ،

٦٤٩

عن ذلك ، لأنّ في إسكانهنّ الغرف تطلعا إلى الرجال وليس في ذلك تحصين لهنّ ولا تستر ، وذلك أنهنّ لا يملكن أنفسهنّ حين يشرفن على الرجال فتحدث الفتنة فحذر من ذلك ، وكذلك تعليم الكتابة ربما كان سببا للفتنة لأنها قد تكتب لمن تهوى ، والكتابة عين من العيون بها يبصر الشاهد الغائب ، والخط إشارة اليد وفيها تعبير عن الضمير بما لا ينطق به اللسان ، فهي أبلغ من اللسان فأحب صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يقطع عن المرأة أسباب الفتنة تحصينا لها.

وقوله تعالى : (كَلَّا) ردع لمن كفر بنعمة الله تعالى بطغيانه ، وإن لم يذكره لدلالة الكلام عليه ، فإنه تعالى قد عدّ مبدأ أمر الإنسان ومنتهاه إظهارا لما أنعم عليه من أن نقله من أحسن المراتب إلى أعلاها تقريرا لربوبيته وتحقيقا لأكرميته ، (إِنَّ الْإِنْسانَ) أي : هذا النوع الذي من شأنه الأنس بنفسه والنظر في عطفه (لَيَطْغى) أي : من شأنه إلا من عصمه الله تعالى أن يزيد على الحدّ الذي لا ينبغي له مجاوزته.

(أَنْ رَآهُ) أي : رأى نفسه (اسْتَغْنى) أي : وجد له الغنى بالمال وقيل : أن يرتفع عن منزلته في اللباس والطعام وغير ذلك. نزلت في أبي جهل كان إذا زاد ماله زاد في ثيابه ومركبه وطعامه فذلك طغيانه. وعن ابن عباس رضي الله عنهما لما نزلت هذه الآية وسمع بها المشركون أتاه أبو جهل ، فقال : يا محمد أتزعم أنّ من استغنى طغى فاجعل لنا جبال مكة ذهبا لعلنا نأخذ فنطغى فندع ديننا ونتبع دينك ، قال : فأتاه جبريل عليه‌السلام فقال : يا محمد خيرهم في ذلك فإن شاؤوا فعلنا بهم ما أرادوا ، فإن لم يفعلوا فعلنا بهم كما فعلنا بأصحاب المائدة ، فكف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الدعاء إبقاء لهم. وقيل : (أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى) بالعشيرة والأنصار والأعوان ، وحذف اللام من قوله تعالى : (أَنْ رَآهُ) كما يقال إنكم لتطغون أن رأيتم غناكم ، فرأى علمية واستغنى مفعول ثان ، وأن رأى مفعول له.

(إِنَّ إِلى رَبِّكَ) أي : المحسن إليك بالرسالة التي رفع بها ذكرك لا إلى غيره (الرُّجْعى) مصدر كالبشرى بمعنى الرجوع ، ففي ذلك تخويف للإنسان بأن يجازي العاصي بما يستحقه.

وقوله تعالى : (أَرَأَيْتَ) في مواضعها الثلاث للتعجب (الَّذِي يَنْهى) أي : على سبيل التجدد والاستمرار وهو أبو جهل.

(عَبْداً) أي : من العبيد وهو النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم (إِذا صَلَّى) أي : خدم سيده الذي لا يقدر أحد أن ينكر سيادته بإيقاع الصلاة التي هي أعظم العبادات. نزلت في أبي جهل وذلك أنه نهى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الصلاة. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : «قال أبو جهل : هل يعفر محمد وجهه بين أظهركم؟ فقالوا : نعم. فقال : واللات والعزى لئن رأيته يفعل ذلك لأطأنّ على رقبته ، ولأعفرنّ وجهه في التراب ،. قال : فأتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو يصلي ليطأ على رقبته فنكص على عقبيه وهو يتقي بيده ، فقيل : له : ما لك؟ ، فقال : إن بيني وبينه خندقا من النار وهولا وأجنحة ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لو دنا مني لاختطفته الملائكة عضوا عضوا فأنزل الله تعالى هذه الآية» (١). وفي رواية «لو فعله لأخذته

__________________

والشوكاني في الفوائد المجموعة ١٢٦ ، وابن عراق في تنزيه الشريعة ٢ / ٢٠٨ ، والسيوطي في اللآلئ المصنوعة ٢ / ٩٢.

(١) أخرجه مسلم في المنافقين حديث ٢٧٩٧.

٦٥٠

الملائكة» زاد الترمذي : «عيانا» (١). وعن الحسن أنه أمية بن خلف كان ينهى سلمان عن الصلاة وفائدة التنكير في قوله تعالى : (عَبْداً) الدلالة على أنه كامل العبودية ، كأنه قيل : ينهى أشدّ الخلق عبودية عن العبادة وهذا عين الجهل.

وقيل : إن هذا الوعيد يلزم كل من ينهى عن الصلاة وعن طاعة الله تعالى ولا يدخل في ذلك المنع من الصلاة في الدار المغصوبة ، وفي الأوقات المكروهة لأنه قد ورد النهي عن ذلك في الأحاديث الصحيحة ولا يدخل أيضا منع السيد عبده والرجل زوجته عن صوم التطوّع وقيام الليل والاعتكاف ، لأنّ ذلك مصلحة إلا أن يأذن فيه السيد والزوج.

(أَرَأَيْتَ إِنْ كانَ) أي : المنهي وهو النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم (عَلَى الْهُدى) وقرأ نافع بتسهيل الهمزة بعد الراء ، وعن ورش إبدالها ألفا ، وأسقطها الكسائي ، والباقون بالتحقيق

وقوله تعالى : (أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوى) أي : بالإخلاص والتوحيد للتقسيم.

تنبيه : قوله تعالى : (أَرَأَيْتَ) تكرير للأوّل وكذا الذي في قوله : (أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ) وهو أبو جهل (وَتَوَلَّى) عن الإيمان.

(أَلَمْ يَعْلَمْ) أي : يقع له علم يوما من الأيام (بِأَنَّ اللهَ) الذي له صفات الكمال (يَرى) ويطلع على أحواله من هداه وضلاله فيجازيه على حسب ذلك ، أي : أعجب منه يا مخاطب في نهيه عن الصلاة من حيث إنّ المنهي على الهدى آمر بالتقوى وفي وجه التعجب وجوه :

أحدها : أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «اللهمّ أعز الإسلام إمّا بأبي جهل وإمّا بعمر بن الخطاب» (٢) وهو ينهى عبدا إذا صلى.

الثاني : أنه يلقب بأبي الحكم فقيل : أيلقب بهذا وهو ينهى عن الصلاة فيتعجب منه ، ومن حيث إن الناهي مكذب متول عن الإيمان.

الثالث : أنه كان يأمر وينهى ويعتقد وجوب طاعته ثم إنه ينهى عن طاعة الله تعالى.

وقوله تعالى : (كَلَّا) ردع للناهي (لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ) أي : عما هو فيه واللام لام قسم (لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ) أي : لنأخذن بناصيته ولنسحبنه بها إلى النار والسفع القبض على الشيء وجذبه بشدّة. قال عمرو بن معديكرب (٣) :

قوم إذا نقع الصريخ رأيتهم

ما بين ملجم مهره أو سافع

والنقع الصوت. ولما علم أنها ناصية المذكور اكتفى باللام عن الإضافة ، والآية وإن كانت في أبي جهل فهي عظة للناس وتهديد لمن يمنع غيره عن طاعة الله تعالى.

وقوله تعالى : (ناصِيَةٍ) بدل من الناصية قال الزمخشري : وجاز بدلها عن المعرفة وهي نكرة لأنها وصفت ، أي : ب (كاذِبَةٍ خاطِئَةٍ) واستقلت بفائدة واعترض عليه بأنّ هذا مذهب الكوفيين فإنهم

__________________

(١) أخرجه الترمذي حديث ٣٣٤٨ ، وأحمد في المسند ١ / ٢٤٨ ، ٣٦٨.

(٢) أخرجه بنحوه الترمذي حديث ٣٦٨١ ، ٣٦٨٣ ، وابن ماجه حديث ١٠٥ ، وأحمد في المسند ٢ / ٩٥ ، والحاكم في المستدرك ٣ / ٥٠٢ ، والبيهقي في السنن الكبرى ٦ / ٣٧٠.

(٣) البيت من الكامل ، وهو لعمرو بن معد يكرب في ديوانه ص ١٤٥ ، ولحميد بن ثور في ديوانه ص ١١١ ، والمقاصد النحوية ٤ / ١٤٦ ، وبلا نسبة في الأشباه والنظائر ٨ / ٢١٨.

٦٥١

لا يجيزون إبدال نكرة من معرفة إلا بشرط وصفها ، أو كونها بلفظ الأوّل ومذهب البصريين لا يشترط شيء ، والمعنى : لنأخذن بناصية أبي جهل الكاذبة في قولها الخاطئة في فعلها ، والخاطئ معاقب مأخوذ والمخطئ غير مأخوذ ووصفت الناصية بالكاذبة الخاطئة كوصف الوجوه في قوله تعالى : (إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) [القيامة : ٢٣] وإنما وصفت الناصية بالكاذبة لأنه كان يكذب على الله تعالى في أنه لم يرسل محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وعلى رسوله في أنه ساحر وليس بنبي ووصفت بأنها خاطئة لأنّ صاحبها تمرّد على الله تعالى كما قال تعالى : (لا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخاطِؤُنَ) [الحاقة : ٣٧] فهما في الحقيقة لصاحبها وفيه من الحسن والجزالة ما ليس في قولك ناصية كاذب خاطىء.

وروي أنّ أبا جهل مرّ برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو يصلي فقال : ألم أنهك فأغلظ عليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال : أتنهرني وأنا أكثر أهل الوادي ناديا ، فو الله لأملأنّ عليك هذا الوادي إن شئت خيلا جردا ورجالا مردا فأنزل الله تعالى : (فَلْيَدْعُ) أي : دعاء استغاثة (نادِيَهُ) أي : أهل ناديه ليعينوه فهو على حذف مضاف ، لأنّ النادي هو المجلس الذي ينتدى فيه القوم قال تعالى : (وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ) [العنكبوت : ٢٩] أي : يتحدّثون فيه أو على التجوّز لأنه مشتمل على الناس كقوله تعالى : (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ) [يوسف : ٨٢] ولا يسمى المكان ناديا حتى يكون فيه أهله ، والمعنى فليدع عشيرته فلينتصر بهم.

(سَنَدْعُ) أي : بوعد لا خلف فيه (الزَّبانِيَةَ) قال ابن عباس رضي الله عنهما : يريد زبانية جهنم سموا بها لأنهم يدفعون أهل النار إليها بشدّة ، جمع زبني مأخوذ من الزبن وهو الدفع. وقال الزمخشري : الزبانية في كلام العرب الشّرط الواحد زبنية. وقال الزجاج : هم الملائكة الغلاظ الشداد. قال ابن عباس رضي الله عنهما : لو دعا ناديه لأخذته زبانية الله تعالى. وروي «أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما قرأ هذه السورة وبلغ إلى قوله تعالى : (لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ) قال : أبو جهل : أنا أدعو قومي حتى يمنعوا عني ربك». قال الله تعالى : (فَلْيَدْعُ نادِيَهُ سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ) فلما ذكر الزبانية رجع فزعا ، فقيل : له : خشيت منه؟ قال : لا ولكن رأيت عنده فارسا وهدّدني بالزبانية فلا أدري الزبانية ، ومال إليّ الفارس فخشيت منه أن يأكلني. قال ابن عباس رضي الله عنهما : والله لو دعا ناديه لأخذته ملائكة العذاب من ساعته». (١)

وقوله تعالى : (كَلَّا) ردع لأبي جهل ، أي : ليس الأمر على ما يظنه أبو جهل (لا تُطِعْهُ) أي : فيما دعاك إليه من ترك الصلاة كقوله تعالى : (فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ) [القلم : ٨] وقوله تعالى : (وَاسْجُدْ) يحتمل أن يكون بمعنى السجود في الصلاة ، وأن يكون سجود التلاوة في هذه السورة ، ويدل لهذا ما ثبت في صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال : سجدت مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في (إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ) [الانشقاق : ١] وفي (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ) سجدتين ، وهذا نص أن المراد سجود التلاوة ، ويدل للأوّل قوله تعالى : (أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى عَبْداً إِذا صَلَّى) إلى قوله تعالى : (كَلَّا لا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ) أي : ودم على سجودك. قال الزمخشري : يريد الصلاة لأنه لا يرى سجود التلاوة في المفصل والحديث عليه. (وَاقْتَرِبْ) أي : وتقرّب إلى ربك بطاعته وبالدعاء إليه. قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أما الركوع فعظموا فيه الرب ، وأما السجود فاجتهدوا في الدعاء فقمن ـ أي : فحقيق ـ أن

__________________

(١) أخرجه الترمذي في تفسير القرآن حديث ٣٣٤٩.

٦٥٢

يستجاب لكم» (١). «وكان صلى‌الله‌عليه‌وسلم يكثر في سجوده من البكاء والتضرّع حتى قالت عائشة رضي الله عنها : قد غفر الله لك ما تقدّم من ذنبك وما تأخر فما هذا البكاء في السجود؟ وما هذا الجهد الشديد؟ قال : أفلا أكون عبدا شكورا» (٢). وفي رواية : «أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد ، فأكثروا الدعاء» (٣). وقرأ (لَيَطْغى) ، (و (اسْتَغْنى) ، (إِذا صَلَّى) ، (عَلَى الْهُدى) ، (بِالتَّقْوى) ، (وَتَوَلَّى) حمزة والكسائي جميع ذلك بالإمالة محضة ، وورش وأبو عمرو بين بين والفتح عن ورش قليل ، والباقون بالفتح. وقول البيضاوي تبعا للزمخشري عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من قرأ سورة العلق أعطي من الأجر كأنما قرأ المفصل كله» (٤) حديث موضوع.

__________________

(١) أخرجه مسلم في الصلاة حديث ٤٧٩ ، والنسائي في التطبيق حديث ١٠٤٥.

(٢) أخرجه البخاري في تفسير القرآن حديث ٤٨٣٧ ، ومسلم في القيامة حديث ٢٨٢٠ ، والترمذي في الصلاة حديث ٤١٢ ، والنسائي في قيام الليل حديث ١٦٤٤ ، وابن ماجه في الإقامة حديث ١٤١٩.

(٣) أخرجه مسلم في الصلاة حديث ٤٨٢ ، وأبو داود في الصلاة حديث ٨٧٥.

(٤) ذكره الزمخشري في الكشاف ٤ / ٧٨٤.

٦٥٣

سورة القدر

مدنية ، في قول أكثر المفسرين ، وحكى الماوردي عكسه ، وذكر الواحدي أنها أوّل سورة نزلت بالمدينة وهي خمس آيات وثلاثون كلمة ومائة واثنا عشر حرفا.

بسم الله الرّحمن الرّحيم

(بِسْمِ اللهِ) الملك الأعظم الذي لا يعبد إلا إياه (الرَّحْمنِ) الذي عمّ بجوده جميع خلقه أقصاه وأدناه (الرَّحِيمِ) الذي قرّب أهل طاعته وأبعد من عداهم وأشقاه.

(إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (١) وَما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ (٢) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (٣) تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ (٤) سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ (٥))

وقوله تعالى : (إِنَّا أَنْزَلْناهُ) أي : بما لنا من العظمة ، أي : القرآن فيه تعظيم له من ثلاثة أوجه:

أحدها : أنه أسند إنزاله إليه وجعله مختصا به دون غيره.

والثاني : أنه جاء بضميره دون اسمه الظاهر شهادة له بالنباهة والاستغناء عن التنبيه عليه.

والثالث : الرفع من مقدار الوقت الذي أنزل فيه ، وهو قوله تعالى : (فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ).

(وَما أَدْراكَ) أي : أعلمك يا أشرف الخلق (ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ) فإن في ذلك تعظيما لشأنها. روي أنه أنزله جملة واحدة في ليلة القدر من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا ، وأملاه جبريل عليه‌السلام على السفرة ، ثم كان ينزله على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم نجوما في ثلاث وعشرين سنة بحسب الوقائع والحاجة إليه. وحكى الماوردي عن ابن عباس رضي الله عنهما : أنه نزل في شهر رمضان وفي ليلة القدر وفي ليلة مباركة جملة واحدة من اللوح المحفوظ إلى السفرة الكرام الكاتبين في السماء الدنيا فنجمته السفرة على جبريل عليه‌السلام عشرين سنة ، ونجمه جبريل على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عشرين سنة. قال ابن العربي : وهذا باطل ليس بين جبريل وبين الله تعالى واسطة ، ولا بين جبريل وبين محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم واسطة ، وعن الشعبي : إنا ابتدأنا إنزاله في ليلة القدر. وقيل : المعنى أنزل في شأنها وفضلها فليست ظرفا ، وإنما هو كقول عمر رضي الله عنه : خشيت أن ينزل فيّ قرآن. وقول عائشة رضي الله عنها لأنا أحقر في شأني أن ينزل فيّ قرآن. وسميت ليلة القدر لأن الله تعالى يقدّر فيها ما يشاء من أمره إلى السنة القابلة من أمر الموت والأجل والرزق وغيره ، ويسلمه إلى مدبرات الأمور من الملائكة ، وهم إسرافيل وميكائيل وعزرائيل وجبرائيل عليهم‌السلام ، كقوله تعالى : (فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ) [الدخان : ٤] وعن ابن عباس رضي الله عنهما : أن الله تعالى يقضي الأقضية في ليلة

٦٥٤

نصف شعبان ، ويسلمها إلى أربابها في ليلة القدر ، وهذا يصلح أن يكون جمعا بين القولين في قوله تعالى : (فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ) فإنه قيل فيها : إنها ليلة النصف من شعبان وقيل : ليلة القدر وحينئذ لا خلاف ، وقيل : سميت بذلك لتضيقها بالملائكة. قال الخليل : لأن الأرض تضيق فيها الملائكة كقوله تعالى : (وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ) [الطلاق : ٧] وقيل : سميت بذلك لعظمها وشرفها وقدرها من قولهم : لفلان قدر ، أي : شرف ومنزلة قاله الأزهري وغيره. وقيل : سميت بذلك لأن للطاعة قدرا عظيما وثوابا جزيلا. وقيل : لأنه أنزل فيها كتابا ذا قدر على رسول ذي قدر ، ومعنى أنّ الله تعالى يقدر الآجال : أنه يظهر ذلك لملائكته ويأمرهم بفعل ما هو من سعتهم بأن يكتب لهم ما قدّره في تلك السنة ، ويعرّفهم إياه ، وليس المراد أنه يحدث في تلك الليلة لأن الله تعالى قدر المقادير قبل أن يخلق السموات والأرض في الأزل قيل للحسين بن الفضل : أليس قد قدر الله تعالى المقادير قبل أن يخلق السموات والأرض ، قال نعم ، قيل له : فما معنى ليلة القدر ، قال : سوق المقادير إلى المواقيت ، وتنفيذ القضاء المقدّر.

واختلفوا هل هي باقية أو لا؟ فقيل : إنها كانت مرّة ثم انقطعت ، وقيل : إنها رفعت بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والصحيح أنها باقية إلى يوم القيامة. وروي عن عبد الله بن محسن مولى معاوية قال : قلت لأبي بكر : زعموا أن ليلة القدر قد رفعت ، قال : كذب من قال ذلك ، قلت : هي في كل شهر رمضان أستقبله ، قال : نعم. وعن سعيد بن المسيب أنه سئل عن ليلة القدر أهي شيء كان فذهب ، أم هي في كل عام ، فقال : بل هي لأمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما بقي منهم اثنان ، واستدل من قال برفعها بقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين تلاحى الرجلان : «إني خرجت لأخبركم بليلة القدر فتلاحى فلان وفلان فرفعت ، وعسى أن يكون خيرا لكم» وهذا غفلة من هذا القائل ففي آخر الحديث «فالتمسوها في التاسعة والسابعة والخامسة» (١) فلو كان المراد رفع وجودها لم يأمر بالتماسها.

واختلفوا في وقتها فأكثر أهل العلم أنها مختصة برمضان ، واحتجوا بقوله تعالى : (شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ) [البقرة : ١٨٥]. وقال تعالى : (إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ.) فوجب أن لا تكون ليلة القدر إلا في رمضان لئلا يلزم التناقض. وروي عن أبي ابن كعب أنه قال : والله الذي لا إله إلا هو إنها لفي رمضان حلف بذلك ثلاث مرات ، وعن ابن عمر قال : سئل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأنا أسمع عن ليلة القدر فقال : «هي في كل رمضان» (٢) وقيل : هي دائرة في جميع السنة لا تختص برمضان حتى لو علق طلاق امرأته أو عتق عبده بليلة القدر لا يقع ما لم تنقض سنة من حين حلف ، يروى ذلك عن أبي حنيفة. وعن ابن مسعود أنه قال : من أراد أن يعرف ليلة القدر فلينظر إلى غرة رمضان ، أي : إلى أوّله فإن كان يوم الأحد فليلة القدر ليلة تسع وعشرين ، وإن كان يوم الاثنين فليلة القدر إحدى وعشرين ، وإن كان يوم الثلاثاء فليلة سبع وعشرين ، وإن كان يوم الأربعاء فليلة تسعة عشر ، وإن كان يوم الخميس فليلة خمس وعشرين ، وإن كان ليلة الجمعة فليلة سبعة عشر ، وإن كان يوم السبت فليلة ثلاث وعشرين. وعلى القول الأول هل هي في كل زمان أو في العشر الأخير قولان : أحدهما : أنها في كل شهره.

__________________

(١) أخرجه البخاري في الإيمان حديث ٤٩.

(٢) أخرجه أبو داود في الصلاة حديث ١٣٨٧ ، والبيهقي في السنن الكبرى ٤ / ٣٠٧.

٦٥٥

واختلفوا في أي ليلة منه فقال ابن رزين : هي الليلة الأولى من رمضان ، وقال الحسن البصري : السابعة عشر ، وقال أنس : التاسعة عشر ، وقال محمد بن إسحاق : الحادية والعشرون ، وقال ابن عباس : الثالثة والعشرون ، وقال أبيّ بن كعب : السابعة والعشرون. وقيل : التاسعة والعشرون ، وقيل : ليلة الثلاثين ، وكل استدل على قوله بما يطول الكلام عليه. والقول الثاني وهو ما عليه الأكثرون أنها مختصة بالعشر الأخير منه ، واستدل لذلك بأشياء منها : ما روى عبادة بن الصامت «أنه سأل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن ليلة القدر فقال : في رمضان فالتمسوها في العشر الأواخر». ومنها : ما روي عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «فالتمسوها في العشر الأواخر من رمضان» (١). وعن عائشة رضي الله عنها قالت : «كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يجتهد في العشر الأواخر ما لا يجتهد في غيرها» (٢). وعنها قالت «كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا دخل العشر شدّ مئزره وأحيا ليله وأيقظ أهله» (٣).

واختلفوا في أنها أي ليلة من العشر ، هل في ليلة من ليالي العشر كله ، أو في أوتاره فقط ، وهل تلزم ليلة بعينها ، أو تنتقل في جميعه أقوال. والذي عليه الأكثر أنها في جميعه ، ولكن أرجاها أوتاره وأرجى الأوتار عند إمامنا الشافعي رضي الله عنه ليلة الحادي والعشرين أو الثالث والعشرين يدل للأوّل خبر الصحيحين وللثاني خبر مسلم وأنها تلزم عنده ليلة بعينها. وقال المزني صاحب الشافعي وابن خزيمة : إنها متنقلة في ليالي العشر جمعا بين الأحاديث ، قال النووي : وهو قويّ. وقال في مجموعه أنه الظاهر المختار وخصها بعض العلماء بأوتار العشر الأواخر ، وبعضهم بأشفاعه.

وقال ابن عباس وأبيّ : هي ليلة سبع وعشرين وهو مذهب أكثر أهل العلم ، واستنبط ذلك بعضهم من أنّ ليلة القدر ذكرت ثلاث مرّات ، وهي تسعة أحرف ، وإذا ضربت تسعة في ثلاثة تكون سبعة وعشرين ، وبعضهم استنبط ذلك من عدد كلمات السورة ، وقال : إنها ثلاثون كلمة وفاقا ، وقوله تعالى : (هِيَ) السابع والعشرون ، وهي كناية عن هذه الليلة فبان أنها ليلة السابع والعشرين ، وهو استنباط لطيف وليس بدليل كما قيل : وفيها نحو الثلاثين قولا وبضع وعشرون حديثا وأفردت بالتصنيف ، وفيما ذكرناه كفاية.

وذكروا للسبب في إخفائها عن الناس وجوها :

أحدها : أنه تعالى أخفاها ليعظموا جميع السنة على القول بأنها فيها ، أو جميع رمضان على القول به ، أو جميع العشر الأخير على القول به ، كما أخفى رضاه في الطاعات ليرغبوا في كلها ، وأخفى غضبه في المعاصي ليحذروها كلها ، وأخفى وليه من المسلمين ليعظموهم كلهم ، وأخفى

__________________

(١) أخرجه البخاري في الاعتكاف حديث ٢٠٢٧ ، ومسلم في الصيام حديث ١١٦٧ ، وأبو داود في الصلاة حديث ١٣٨٣ ، والنسائي في السهو حديث ١٣٥٦ ، وابن ماجه في الصيام حديث ١٧٦٦.

(٢) أخرجه مسلم في الاعتكاف حديث ١١٧٥ ، والترمذي في الصوم حديث ٧٩٦ ، وابن ماجه في الصيام حديث ١٧٦٧.

(٣) أخرجه البخاري في فضل ليلة القدر حديث ٢٠٢٤ ، ومسلم في الاعتكاف حديث ١١٧٤ ، وأبو داود في الصلاة حديث ١٣٧٦ ، والنسائي في قيام الليل حديث ١٦٣٩.

٦٥٦

الإجابة في الدعاء ليبالغوا في الدعوات ، وأخفى ساعة الإجابة في يوم الجمعة ليجتهدوا في العبادة في جميع الأوقات المنهيّ عنها طمعا في إدراكها ، وأخفى الاسم الأعظم ليعظموا كل أسمائه تعالى ، وأخفى الصلاة الوسطى ليحافظوا على الكل ، وأخفى التوبة ليواظب المكلف على جميع أقسامها ، وأخفى قيام الساعة ليكونوا على وجل من قيامها بغتة.

ثانيها : أن العبد إذا لم يتيقن ليلة القدر واجتهد في الطاعة رجاء أن يدركها فيباهي الله تعالى به ملائكته ، ويقول : تقولون فيهم يفسدون ويسفكون الدماء وهذا جدّه واجتهاده في الليلة المظنونة ، فكيف لو جعلتها معلومة فحينئذ يظهر أني أعلم ما لا تعلمون. ثالثها : ليجتهدوا في طلبها والتماسها فينالوا بذلك أجر المجتهدين في العبادة ، بخلاف ما لو عينت في ليلة بعينها لحصل الاقتصار عليها ففاتت العبادة في غيرها.

ثم ذكر الله تعالى فضلها من ثلاثة أوجه : أحدها : ما ذكره بقوله سبحانه : (لَيْلَةُ الْقَدْرِ) أي : التي خصصناها بإنزالنا فيها (خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ) ليس فيها ليلة القدر فالعمل الصالح فيها خير منه في ألف شهر ليست فيها ليلة قدر. وعن ابن عباس رضي الله عنهما «ذكر لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم رجل من بني إسرائيل حمل السلاح على عاتقه في سبيل الله ألف شهر ، فعجب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لذلك وتمنى ذلك لأمّته ، فقال : يا رب ، جعلت أمتي أقصر الأمم أعمارا وأقلها أعمالا ، فأعطاه الله تعالى ليلة القدر ، فقال تعالى : (لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ) التي حمل فيها الإسرائيلي السلاح في سبيل الله لك ولأمتك إلى يوم القيامة» (١) ، أي : فهي من خصائص هذه الأمة.

وعن مالك أنه سمع من يثق به من أهل العلم أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أري أعمار الناس قبله فكأنه تقاصر أعمار أمته أن لا يبلغوا من العمل مثل الذي يبلغ غيرهم ، فأعطاه الله تعالى ليلة القدر التي العمل فيها خير من العمل في ألف شهر ليس فيها ليلة القدر. وقيل : إن الرجل فيما مضى ما كان يقال له : عابد حتى يعبد الله تعالى ألف شهر ، فأعطوا ليلة إن أحيوها كانوا أحق بأن يسموا عابدين من أولئك العباد ، وهي أفضل ليالي السنة ، ويدخل في ذلك ليلة الإسراء فهي أفضل منها إن لم تكن ليلة الإسراء ليلة القدر ، كما قيل : إن الإسراء كان في رمضان ، وإنما كان كذلك لما يريد الله تعالى فيها من المنافع فيكتب فيها جميع خير السنة وشرّها ورزقها وأجلها وبلائها ورخائها ومعاشها إلى مثلها من السنة ، ولا يشكل ذلك بما قيل : إن الآجال من شعبان إلى شعبان حتى أن الرجل لينكح ويولد له وقد خرج اسمه في الموتى ، لما ورد أنّ الله تعالى يأمر بنسخ ما يكون في السنة من الآجال والأمراض والأرزاق ونحوها في ليلة النصف من شعبان ، فإذا كان ليلة القدر فيسلمها إلى أربابها. وقيل : يقدّر في ليلة النصف من شعبان الآجال والأمراض ، وفي ليلة القدر الأمور التي فيها الخير والبركة والسلامة.

الوجه الثاني : من فضائلها ما ذكره الله تعالى في قوله جلّ ذكره : (تَنَزَّلُ) أي : تنزلا متدرجا متواصلا على غاية ما يكون من الخفة والسرعة بما أشار إليه حذف التاء (الْمَلائِكَةُ) أي : إلى الأرض. روي أنه إذا كان ليلة القدر تنزل الملائكة وهم سكان سدرة المنتهى (وَالرُّوحُ) أي : جبريل عليه‌السلام (فِيها) أي : في الليلة ومعه أربعة ألوية فينصب لواء على قبر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولواء

__________________

(١) الحديث لم أجده بهذا اللفظ في كتب الحديث التي بين يدي.

٦٥٧

على ظهر بيت المقدس ، ولواء على ظهر المسجد الحرام ، ولواء على ظهر سيناء ، ولا يدع بيتا فيه مؤمن ولا مؤمنة إلا دخله وسلم عليهم ، يقول : يا مؤمن ويا مؤمنة السلام يقرئك السلام إلا على مدمن خمر ، وقاطع رحم ، وآكل لحم خنزير. وعن أنس أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إذا كان ليلة القدر نزل جبريل عليه‌السلام في كبكبة من الملائكة يصلون ويسلمون على كل عبد قائم ، أو قاعد يذكر الله تعالى» (١). وهذا يدل على أن الملائكة كلهم لا ينزلون ، وظاهر الآية نزول الجميع وجمع بين ذلك بما روي أنهم ينزلون فوجا فوجا كما أنّ أهل الحج يدخلون الكعبة فوجا بعد فوج ، وإن كانت لا تسعهم دفعة واحدة كما أن الأرض لا تسع الملائكة دفعة واحدة ، ولذلك ذكر بلفظ تنزل الذي يقتضي المرّة بعد المرّة ، أي : ينزل فوج ويصعد فوج والله أعلم بذلك.

وعن أبي هريرة رضي الله عنه : أن الملائكة في تلك الليلة أكثر من عدد الحصى ، وقال بعضهم : الروح ملك تحت العرش ورجلاه في تخوم الأرض السابعة وله ألف رأس أعظم من الدنيا ، وفي كل رأس ألف وجه ، وفي كل وجه ألف فم ، وفي كل فم ألف لسان يسبح الله تعالى بكل لسان ألف نوع من التسبيح والتحميد والتمجيد ، ولكل لسان لغة لا تشبه لغة أخرى. فإذا فتح أفواهه بالتسبيح خرّت ملائكة السموات السبع سجدا مخافة أن تحرقهم أنوار أفواهه ، وإنما يسبح الله تعالى غدوة وعشية فينزل في ليلة القدر لشرفها وعلوّ شأنها فيستغفر للصائمين والصائمات من أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بتلك الأفواه كلها إلى طلوع الفجر.

وعن عليّ أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «رأيت ليلة أسري بي ملكا رجلاه جاوزت من الأرض السابعة السفلى ، ورأسه من السماء السابعة العليا ، ومن لدن رأسه إلى قدميه وجوه وأجنحة في كل وجه فم ولسان يسبح الرحمن تسبيحا لا يسبحه العضو الآخر ، ولو أمره الله تعالى أن يلتقم السموات السبع والأرضين السبع لقمة واحدة كما يلتقم أحدكم اللقمة لأطاق ذلك ، ثم لم تكن تلك في فيه إلا كلقمة أحدكم في فيه ، ولو سمع أهل الدنيا صوته بالتسبيح لصعقوا ، ما بين شحمة أذنه إلى منكبه خفقان الطير السريع سبعة آلاف سنة ، وهو رأس الملائكة» (٢). وقيل : الروح طائفة من الملائكة لا تراهم الملائكة إلا في تلك الليلة ينزلون من لدن غروب الشمس إلى طلوع الفجر. (بِإِذْنِ رَبِّهِمْ) أي : بأمر المحسن إليهم المربي لهم (مِنْ كُلِّ أَمْرٍ) أي : قضاه الله تعالى فيها لتلك السنة إلى قابل ، وتقدّم الجمع بينها وبين ليلة النصف من شعبان ، ومن سببية بمعنى الباء.

الوجه الثالث : فضائلها ما ذكره تعالى بقوله سبحانه : (سَلامٌ) أي : عظيم جدّا ، وهو خبر مقدّم والمبتدأ. (هِيَ) جعلت سلاما لكثرة السلام فيها من الملائكة لا يمرّون بمؤمن ولا مؤمنة إلا سلمت عليه ويستمرّون على ذلك من غروب الشمس (حَتَّى) أي : إلى (مَطْلَعِ الْفَجْرِ) أي : وقت مطلعه ، أي : طلوعه. وقرأ الكسائي بكسر اللام على أنه كالمرجع أو اسم زمان على غير قياس كالمشرق ، والباقون بفتحها.

ومن فضائلها أنّ من قامها غفرت له ذنوبه ففي الصحيحين : «من قام ليلة القدر إيمانا

__________________

(١) أخرجه التبريزي في مشكاة المصابيح ٢٠٩٦ ، والسيوطي في الدر المنثور ٦ / ٣٧٧ ، والقرطبي في تفسيره ٢٠ / ١٣٤.

(٢) أخرجه بنحوه الهيثمي في مجمع الزوائد ١ / ٨٠.

٦٥٨

واحتسابا غفر له ما تقدّم من ذنبه» (١). قال النووي في «شرح مسلم» : ولا ينال فضلها إلا من أطلعه الله تعالى عليها فلو قامها إنسان ولم يشعر بها لم ينل فضلها. قال الأذرعي وكلام المتولي ينازعه حيث قال : يستحب التعبد في كل ليالي العشر حتى يحوز الفضيلة على اليقين ا ه. وهذا أولى نعم حال من أطلق أكمل إذا قام بوظائفها. وعن أبي هريرة مرفوعا «من صلى العشاء الأخيرة في جماعة من رمضان فقد أدرك ليلة القدر» (٢) ، أي : أخذ حظا منها. ويسنّ لمن رآها أن يكتمها ، ويسنّ أن يكثر الدعاء والتعبد في ليالي رمضان وأن يكون من دعائه : «اللهمّ إنك عفوّ كريم تحب العفو فاعف عني».

ومن علاماتها أنّ الشمس تطلع صبيحتها لا شعاع لها ، رواه مسلم عن أبيّ بن كعب وعن ابن مسعود : قال : «إنّ الشمس تطلع كل يوم بين قرني شيطان إلا صبيحة ليلة القدر فإنها تطلع يومئذ بيضاء ليس لها شعاع» (٣). فإن قيل : لا فائدة في هذه العلامة فإنها قد انقضت. أجيب : بأنه يستحب أن يجتهد في ليلتها ويبقى يعرفها كما مرّ عن الشافعي أنها تلزم ليلة واحدة. وقول البيضاوي تبعا للزمخشري عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من قرأ سورة القدر أعطى من الأجر كمن صام رمضان وأحيا ليلة القدر» (٤) حديث موضوع.

__________________

(١) أخرجه البخاري في الصوم حديث ١٩٠١ ، ومسلم في المسافرين حديث ٧٦٠ ، وأبو داود في الصلاة حديث ١٣٧٢ ، والترمذي في الصوم حديث ٦٨٣ ، والنسائي في الصيام حديث ٢١٩٣.

(٢) أخرجه الهيثمي في مجمع الزوائد ٢ / ٢٣١ ، والمتقي الهندي في كنز العمال ٢٤٠٩٢ ، والسيوطي في الدر المنثور ٦ / ٣٧٧ ، والطبراني في المعجم الكبير ٨ / ٢١٠.

(٣) أخرجه أبو داود في الصلاة حديث ١٣٧٨ ، والترمذي في الصوم حديث ٧٩٣.

(٤) ذكره الزمخشري في الكشاف ٤ / ٧٨٧.

٦٥٩

سورة لم يكن (١)

وتسمى القيّمة ، وتسمى المنفكين مكية في قول يحيى بن سلام ، ومدنية في قول الجمهور ، وهي ثمان آيات وأربع وتسعون كلمة وثلاث مائة وتسعون حرفا.

بسم الله الرّحمن الرّحيم

(بِسْمِ اللهِ) الذي لا يخرج شيء عن مراده (الرَّحْمنِ) الذي عمّ بنعمه جميع عباده (الرَّحِيمِ) الذي خص أولياءه بإسعاده.

ولما كان الكفار جنسين أهل كتاب ومشركين ذكرهم الله تعالى في قوله سبحانه :

(لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ (١) رَسُولٌ مِنَ اللهِ يَتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً (٢) فِيها كُتُبٌ قَيِّمَةٌ (٣) وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ (٤) وَما أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكاةَ وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (٥) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نارِ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أُولئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ (٦) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (٧) جَزاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ (٨))

(لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا) أي : في مطلق الزمان الماضي والحال والاستقبال (مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ) أي : من اليهود والنصارى الذين كان أصل دينهم حقا فألحدوا فيه بالتبديل والتحريف والاعوجاج في صفات الله تعالى ، ثم نسخه الله تعالى بما شرع من مخالفته في الفروع وموافقته في الأصول فكذبوا. (وَالْمُشْرِكِينَ) أي : بعبادة الأصنام والنار والشمس ، ونحو ذلك ممن هم عريقون في دين لم يكن له أصل في الحق ، بأن لم يكن لهم كتاب.

تنبيه : من للبيان. وقوله تعالى : (مُنْفَكِّينَ) خبر يكن ، أي : منفصلين وزائلين عما كانوا عليه من دينهم انفكاكا يزيلهم عنه بالكلية بحيث لا تبقى لهم به علقة ، ويثبتون على ذلك الانفكاك ، وأصل الفك الفتح والانفصال لما كان ملتحما من فك الكتاب والختم والعظم إذا أزيل ما كان ملتصقا أو متصلا به ، أو عن الموعد باتباع الحق إذا جاءهم الرسول المبشر به ، فإنّ أهل الكتاب كانوا يستفتحون به ، والمشركين كانوا يقسمون بالله جهد أيمانهم لئن جاءهم نذير ليكونن أهدى من إحدى الأمم.

__________________

(١) وهي سورة البينة.

٦٦٠